شخصية الرسول وأبعادها الإنسانية
• الرسول الإنسان:
قال الله العظيم في محكم كتابه المبين:
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
إن شخصية الإنسان تبدأ بالتكون منذ الولادة بل تتحكم فيه عوامل الوراثة كما هو واضح، إلا أن عامل التربية يبقى عاملاً قوياً في تكوين شخصية الإنسان وبالنسبة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نجد أن القرآن الكريم أشار إلى عامل الوراثة والى أن شخصية النبي إنما هي خلاصة لشخصيات آبائه وأجداده من الرسل كإبراهيم وإسماعيل ومن حمل في صلبه نطفة هذا الكائن.
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).
وجاء في تفسير هذه الآية (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي انتقالك في أصلاب الآباء الساجدين الموحدين لله تبارك وتعالى، وفي الأحاديث توجد إشارة إلى أهمية العامل الوراثي باعتبار أن نطفة الجنين تتكون أوّل ما تتكون من جينات وراثية (كروموسومات).
هذه الجينات تحمل كل الصفات الجسدية والروحية التي يتأثر بها الإنسان من آبائه وأجداده.
(اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس) كما في الحديث.
إذن لا ينكر العامل الوراثي في تكوين شخصية الإنسان إلا انه يبقى عاملاً مساعداً ويأتي عامل التربية ليكمل دور العامل الوراثي ونحن نريد أن نخصص حديثنا عن الشخصية الاجتماعية لرسول الله، هذا الجانب الذي يبدأ من الساعات الأولى لولادة الإنسان ومنذ اللحظات الأولى التي تبصر عينه نور الحياة فتبدأ شخصية الإنسان بالنمو وتصاغ حسب الأجواء المحيطة به، أجواء الأسرة والبيئة والمجتمع.
إن دوائر التأثير في شخصية الإنسان عبارة عن الأسرة والعائلة والبيت الذي ينشأ فيه الإنسان وكذلك البيئة والمحيط الاجتماعي والإنسان تتقولب شخصيته ضمن قوالب معينة وضيقة مثل قالب البيئة والأسرة والمحيط الاجتماعي بينما المطلوب في إنسان كالرسول أن لا تتقولب شخصيته ضمن هذه القوالب المتعارفة.
والسؤال الآن، كيف تكونت شخصية رسول الله وما هو مصدر فكره؟
هل تكونت شخصية رسول الله مثلما تتكون شخصية أي إنسان، صحيح أن الرسول بشر ولكنه بشر متميز فليس الرسول كائناً فوق البشر أو من غير عنصر البشر إنما هو من عنصر البشر ولكنه بشر متفوق.
مثال: الزجاج أصله ومعدنه من الرمل ومن مواد رملية والزجاج أنواع هناك زجاج للشباك وهناك زجاج عدسات التصوير وهناك زجاج العدسات المكبرة وهناك زجاج عدسات التلسكوب والمجاهر العلمية وكل هذا الزجاج وكله من معدن واحد ولكن هناك فرق بين زجاج الشبابيك وبين عدسات التكبير لأنه كلما كانت شفافية الزجاج أكثر وكلما كان تركيز الزجاج وتقعيره أكثر تكون قيمته أغلى وفائدته اكثر.
كذلك شخصية الإنسان فالناس كلهم من اصل واحد ولكن اصل الإنسان وجوهره هو عقله وروحه فكلما كانت روح الإنسان شفافة أكثر كلما كان سموه وقدرته اكثر على تلقي المعنويات والكمالات النفسية والروحية فالنبي يمتلك روحاً شفافة ساعدته على تلقي تلك المعنويات السلوكية،وهي التي ساعدته على أن يرتبط بالسماء ويختاره الله لتبليغ رسالته لهذا نلاحظ بأن:
الرسول ومن أول لحظة ولادته أبعد عن دوائر التأثير الطبيعية.
أولاً: نجد أن الرسول ولد يتيماً فلماذا؟
فنشأ بعيداً عن الأبوين وذلك من أجل أن تبقى هذه الشخصية بعيدة عن دوائر التأثير الطبيعية التي تؤثر في صياغة شخصيته أو تتدخل في تكوين أفكاره، فنجد أنه (صلّى الله عليه وآله)، ولد يتيم الأب فلما كان جنيناً في بطن أمه وقبل أن يولد توفى أبوه عبد الله فأبصر الحياة وهو يتيم الأب.
وفي السنة السادسة من عمره تموت أمه آمنة وهو بعد لم يعش في حضن الأم ولم تلمسه يداها بالرعاية والعطف.
• إعداد السماء للرسول
ثانياً: يقول الرسول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
والأنبياء عموماً تصاغ شخصياتهم الرسالية صياغة خاصة كما يقول الله بالنسبة إلى موسى (عليه السلام): (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) و(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)
فالملاحظ أن أغلب الأنبياء يولدون في ظروف غير طبيعية، إبراهيم ولد في ظروف الإرهاب، موسى ولد في عصر فرعون وفي أجواء يسودها التكتم والحذر من ملاحقة السلطة الفرعونية وعيسى ولد في ظروف غير طبيعية.
والسبب أن الأنبياء مطلوب منهم أن يخرجوا مستقبلاً على نظام المجتمع الجاهلي، فلابد أن ينشأوا بعيداً عن الأجواء الجاهلية الموجودة، لأنهم يعدون ـ بإرادة الله ـ للثورة على الأوضاع الاجتماعية الفاسدة.
فلا يصح أن تتأثر شخصيتهم بأي قالب من القوالب السائدة في المجتمع الجاهلي، بل يترك لهم مجال النمو والتكوين في أجواء تتوفر فيها العناية الربانية وتصنعهم اليد الإلهية.
كما نقرأ هذه الصورة من صور السيرة النبوية..
كانت عادة الأشراف في مكة بأن يرسلوا أولادهم إلى البادية ليتربوا وينشأوا في الجو الطلق والمناخ الصحو في البادية ولم تكن من عادتهم أن يبقوا أولادهم في المدينة لكي لا تتلوث نفسية الطفل بأجواء المدينة ولكي يتعلم في البادية على الروح المنطلقة ويتعلم نطق الكلمات فكان الأشراف في مكة يقدمون أولادهم الرضع إلى المرضعات اللاتي يقصدن مكة في السنين العجاف وكانت تلك السنة التي ولد فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سنة قاسية على قبيلة بني سعد، القبيلة التي نشأ فيها النبي فكانت النسوة اللاتي قدمن من قبيلة بني سعد مع غيرهن يلتمسن الأطفال طمعاً في بر الآباء وأموالهم وأوشكت القافلة أن ترجع بالنسوة ومع كل واحد رضيع وكانت حليمة بنت أبي زئيب السعدية قد رأته أولاً ورفضته كغيرهن من المرضعات ولكنها لم تجد طفلاً آخر غيره لأن أمهات الأطفال كلهن يعرض عنها لضعفها وهزالها، فكانت حالة حليمة السعدية لا تغري أمهات وآباء الرضع بتسليم أولادهم إليها وفيما هي خارجة عن مكة عز عليها أن ترجع ولا شيء معها فقالت لزوجها إني لأكره من بين صواحبي أن أعود ولم أخذ معي أحداً لأرجعن إلى ذلك اليتيم ورجح لها زوجها ذلك.
فرجعت إليه واحتضنته (وروى الرواة عن حليمة السعدية أنها قالت: (قدمنا منازل بني سعد ومعي يتيم عبد المطلب ولا أعلم أرضاً من ارض الله أجدب من أرضنا فكانت غنمي تعود حيث حل محمد فينا شباعاً فنحلب منها ونشرب ويتدفق الخير علينا واصبح جميع من في الحي يتمنى ذلك اليتيم الذي يسر لنا الله ببركته الخير ودفع عنا الفقر والبلاء، وكانت حليمة ترعاه هي وزوجها وتقدمه على أولادها إلى أن بلغ سنتين من عمره فرجعت به إلى أمه وجده كما هي في باقي المرضعات ولكن على كره منها أي تعلق قلبها بهذا الطفل تعلقاً شديداً وأحب جده عبد المطلب أن يبقى معها خوفاً عليه من الأمراض التي كانت تتعرض لها مكة بسبب الوفود التي تلتقي فيها من جميع أنحاء شبه الجزيرة ولا سيما وقد رأى عبد المطلب من عطف حليمة عليه ولهفتها على بقائه معها ما لم يره من أم على طفلها الوحيد واستجابت آمنة لرغبتها فرجعت حليمة به إلى بيتها وهي تحس بالسرور والغبطة. وجاء عن حليمة أنها قالت: (لقد قدمنا مكة على عامنا بعد أن تم لمحمد عامان ونحن نحرص على مثله فينا لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا لها لو تركتيه معنا حتى يبلغ ويشتد ولو هذه السنة فإنا نخشى عليه وباء مكة ولم نزل بها حتى ردته معنا، وأضافت حليمة إلى ذلك انه لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون وقال لي يوماً: (أماه ما لي لا أرى اخوتي في النهار فأين يذهبون) وكان اخوته من الرضاعة عبد الله وآنسة وشيماء، فقالت: (فدتك نفسي إنهم يرعون غنماً لنا فيروحون من الليل إلى الليل فقال لي: (ابعثيني معهم) فأرسلته معهم فكان يخرج مسروراً ويعود مسروراً وظل فترة من الوقت على هذه الحال.
• منعطفات في حياة النبي
ولما بلغ رسول الله السنة الثالثة من عمره ذهبت به آمنة إلى يثرب ليزور أخواله بني عدي بني النجار وصحبته في هذه الرحلة، حاضنته أم أيمن وهي بركة الحبشية جارية أبيه التي خلفها له مع ما خلفه من ميراث قليل، وفي هذه الرحلة رأى محمد قبر أبيه ولعله هذه أول مرة أحس فيها بلدغة الحزن في فؤاده ولعلها كذلك أول مرة عرف بها معنى اليتم، ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما قطعت به من الطريق نحو مرحلة فاجأها الموت عند قرية الأبواء فدفنت هنالك ورجع محمد وحيداً تمتلئ عيناه بالدمع ويمتلئ قلبه بالأسى.
ثم نأتي إلى المرحلة الثانية، مرحلة الرعاية والكفالة، هذه المرحلة التي ترعرع فيها رسول الله في كفالة جده عبد المطلب في هذه المرحلة نجد أن حياة الرسول تتسم بملامح خاصة فكان عبد المطلب سيد قريش وكانت لقريش تقاليد خاصة وعادات تعارفوا عليها كابراً عن كابر فكانوا يربون أولادهم وصبيانهم على عادات معينة وكانت مجالس الآباء خالصة للكبار ويبعد عنها الصغار ولا يسمح لهم أن يشاركوا الآباء والكبار في مجالسهم وندواتهم حتى يربوا الطفل على آداب الاحترام والحشمة، فلما يبلغ لطفل مبلغ الرجال يسمح له أن يرافق أباه إلى مجالس الكبار وأندية الشخصيات البارزة في المجتمع ويجب أن يلتزم هذا الشاب مع أبيه ومع وجود الكبار في المجالس بآداب خاصة ولا يتجاوز حدوده الطبيعية (كان هذا عرفاً سائداً في قريش وفي مكة والجزيرة العربية) لكن بالنسبة إلى رسول الله أتيح له جو آخر فكان يعطف عليه جده عبد المطلب عطفاً كثيراً لأنه كان محروماً من الأب، وربما كان دافع عبد المطلب في احترام هذا الطفل هو دافع العاطفة والإحساس بيتم محمد (صلّى الله عليه وآله) والعطف عليه لكي لا يشعر بالفراغ العاطفي والحاجة إلى عاطفة الأبوة في نفسه، ولكن الله يريد شيئاً آخر يريد أن يتيح لهذا الطفل أجواء خاصة ليختلط مع الكبار وينفتح فيها على أندية الرجال ويأخذ ويعطي ويتربى تربية الرجال الكبار وكان من عادة عبد المطلب أن يتخذ له مجلساً في فناء الكعبة يتحدث فيه إلى رجال قريش ويتحدثون إليه فكان يوقد له سراج في ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ولا يجلس على فراشه أحد إجلالاً لأنه كان سيد قريش إلا رسول الله فإنه كان يأتي وهو غلام حتى يجلس على فراش جده فيأتي إليه أعمامه ليؤخروه ويبعدوه فيمنعهم عبد المطلب فيقول دعوا ابني ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يفعل فكان عبد المطلب يعامل هذا الغلام معاملة خاصة خارجة عن المتعارف وكان يقربه ويدخله عليه إذا خلا بنفسه وإذا قام وكان لا يأكل طعاماً إلا قال، عليّ بابني فيؤتى به إليه.
ثم إن الإنسان كما هو واضح مثل معدن الذهب والفضة والبترول يملك من المواهب والطاقات الهائلة ما يحتاج إلى كشف وإخراج وتنمية، فالبترول معدن مدفون تحت طبقات سميكة من الأرض وبحاجة إلى من يأتي ويكتشف ويستخرج البترول ويصفيه ويصنعه ويحوله إلى أداة للحياة والتقدم.
وهكذا هو جوهر الإنسان ومعدنه وطاقاته ومواهبه النفسية والعقلية.
فتتدخل ظروف التربية في المجتمع وعوامل النمو الطبيعية والأحداث والمراحل التي يمر بها الإنسان في إبراز شخصيته وتنمية مواهبه.
حتى الأحداث القاسية من الفقر والحرمان والنكبات التي تصدم الإنسان في تفجير أحاسيس التحدي والمقاومة وتقوي روح الصمود والإصرار في نفسه. كما في الحديث: (عند تقلب الأحوال تعرف حقائق الرجال)
فالأحداث الذي مرّ بها الرسول في أيام صباه وشبابه وقبل بعثته الشريفة ساعدت على إبراز شخصية الرسول الاجتماعية فكان يتفاعل مع الأحداث الاجتماعية، وذلك لما بلغ سن الشباب.
مثلاً سفره إلى الشام وانفتاحه على العالم الخارجي وتعامله التجاري في أموال خديجة ـ ثم زواجه منها ـ وكذلك مساهمته في مشاريع اجتماعية، مثل حلف الفضول ومشاركته في بناء الكعبة ومبادرته بحل ذلك النزاع الذي حدث بين قبائل العرب عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في موضعه.
ثم اشتهاره بين الناس بالصادق الأمين حتى أصبح هذا اللقب ملازماً لشخصية الرسول وتأمله في غار حراء واعتزاله الناس وابتعاده عن مكة وأجوائها الصاخبة وانقطاعه عن التأمل والتحنث في غار حراء على جبل النور في مكة المكرمة.
هذه الأحداث والمنعطفات في حياة النبي الأولى ـ قبل البعثة ـ كلها كانت تدفع شخصية النبي للبروز وتدل على شخصية خارقة، هذا الإنسان يكتب له أن يؤدي دوراً عظيماً جداً في المستقبل.